أوجّه تحيّة تقدير للمجهود الذي قام به طارق الكحلاوي صاحب مقال السرديات الشمولية لعلاقة الدين بالدولة و تاريخانيّتها، وذلك لتقديمه عملا موثّقا و ذا صبغة أكاديمية بالدرجة الأولى و الذي مثـّل مدخلا للحوار و الجدل الناضج و الواعي. إلاّ أني مع هذا التقدير أنبّهه إلى الصعوبات التي و جدتـُها عند تناولي للمقال لأوّل مرة و التي تطلّبت مني أن أعيد القراءة لأكثر من مرّتين حتى ألمّ بالأفكار التي رغب كاتب المقال في التعبير عنها. و إذ أني أسوق هذه الملاحظة، فإني لست أشيد بأسلوب الكاتب الذي يتطلّب من قارئه مجهودا إضافيا حتى يتمكّـن من الفهم بالشكل المرجوّ. قد ينمّ أسلوب الكاتب المستعصي على القارئ على خيار له لأنّه يؤمن بأن للكتابة الأكاديمية نواميسها و مواصفاتها التي تجعلها موجّهة للنخبة فقط، إلا أنّي حتى إن كنت أشاطره الرأي في ضرورة صياغة تعابير "أنيقة" و بعيدة عن الابتذال، لا أتـّفق معه على استعمال هذا الأسلوب الذي يبعث على النفور من محاولة الفهم و الاطلاع، فمن خصائص الأكادميين أساسا أن يكتبوا بأسلوب سلس و واضح. و لا يسعني هنا إلاّ أن أنوّه بوضوح الأفكار و الأسلوب لدى كلّ من جورج طرابيشي، نصري الصايغ، جورج قرم، عزيز العظمة و زياد حافظ الذين ساهموا في ملف العلمانية الصادر عن مجلة الآداب أو لدى عمر قدور أو صادق جلال العظم هنا و هنا أو غيرهم من الذين كتبوا عن العلمانية في مجالات أخرى، و لئن كانت أفكار هؤلاء الكتّاب مختلفة فهي على الأقلّ تتـّفق من حيث سلاسة الأسلوب و وضوحه
سأسوق في هذه التدوينة بعض الملاحظات حول موضوع العلمانية في العالم العربي و هي ملاحظات عامة يندرج بعضها بشكل مباشر حول مقال السرديات الشمولية بينما يأتي بعضها بشكل غير مباشر و لكن في سياق نفس الموضوع المطروح. و أنبّه القارئ إلى أن هذه الملاحظات لا تطعن في شخص طارق الكحلاوي إنّما هي مدخل لنقاش و نقد بعض الآراء السائدة في أوساط المثقفين العرب و الإسلاميين مع العلم أن من شروط التقدم الحضاري أن نفهم أسباب تخلف الوضع الراهن حتى نتمكّن من التأسيس لمستقبل مبني على الفعل التاريخي و ليس على الجمود
لقد جاءت أغلب المقالات المذكورة أعلاه في سياق استقراء للمعطيات التاريخية الموضوعية إمّا لتوضيح الإشكاليات التاريخية للعلاقة بين الدين و السياسة في العالم العربي الإسلامي منذ الدعوة المحمدية إلى يومنا هذا أو لبيان بعض الحقائق و المعلومات التي ساعدت على نشأة العلمانية في دول مختلفة. و لئن كانت المعطيات التاريخية لدى المفكرين هي نفسها فإنّ ذلك لم يمنعهم من الاختلاف في النتائج التي توصّل إليها كلّ منهم، و هي اختلافات مشروعة لأنّنا في مجال العلوم الإنسانية و لسنا أمام معادلات رياضيّة منطقيّة تحتّم على الجميع الوصول إلى نفس النتيجة بما أنّهم يستخدمون نفس المنهج. و هذا لا يعني بحال من الأحوال أن طريقة تفكير باحث أو كاتب في مجال العلوم الإنسانية تفتقر إلى المنطقية، و إنما تملي علينا زاوية النظر التي نستعملها للتدقيق في هذه المعطيات الاستنتاجات التي نتوصّل إليها. سأدرج مثالا للتدليل على هذه الفكرة: لقد كتب جورج قرم المقال المعنون "ملاحظات منهجية للتعامل مع مفهوم العلمانية في الإطار العربي"، و قد توصّل إثر تحليل تاريخي من وجهة نظره الخاصة إلى استنتاج مفاده أنّ العلمانية في الوطن العربي لا بد أن تتأسّس من قراءة جديدة للنصوص الدينية، و رغم أني لا أتـّفق معه لا في طريقة تحليله و لا في النتائج التي توصّل إليها إلاّ أني أحترم التمشّي الذي سلكه و ذلك لوضوحه و لتدرّجه من فكرة إلى أخرى بشكل منطقي، فقد تبيّن لي طرح المفكّر منذ قراءتي للصفحات الأولى، كما بدا لي أن النتيجة المنطقية لما كتبه هي بالضبط ما توصّل إليه في خلاصته
لماذا ذكرت هذا المثال بالذات؟ لأنـّي أعترف أنّي إلى الآن، و رغم فهمي للعناصر الفرعيّة المكوّنة لمقال السرديات الشمولية و التي هي على التوالي السرديات الشمولية، تاريخانية العلمانية و تاريخانية علاقة الدين بالدولة في الإسلام، ما زلت عاجزة عن فهم التمفصلات بين هذه الأجزاء الثلاثة للمقال بعضها ببعض من جهة، و بين هذه العناصر الفرعية و خلاصة المقال من جهة أخرى. لقد ذكرت كمثال مقال جورج قرم و ذلك لأن لدي القدرة على فهم الأساس الذي ينبني عليه الفكر المخالف. هذا يعني أن عدم تمكـّني من إيجاد علاقة ترابط منطقي و متـّسق ينبني عليها مقال طارق الكحلاوي ليس نابعا من رفضي لأي فكرة قد يكون أبداها في مقاله. كما أني متأكدة أنّ العائق ليس فكريا، فإذا كنت قد قرأت جملة من المقالات الصادرة بمجلة الآداب و التي أدرجت خاصّة في موضوعي الطائفية و العلمانية، و لم يتطلب مني الأمر تركيزا استثنائيا، فلماذا سأصاب بقصور ذهني الآن بالذات؟
دعا ياسين الحاج صالح في تقديمه لموضوع العلمانية في العالم العربي في مجلة الآداب إلى "تجاوز الطرح المبدئي و المجرد للعلمانية... نحو طرح أكثر تاريخية و اجتماعية"، و قد التزم مقال طارق الكحلاوي بهذا المبدأ، لذلك أتى في مقاله على ذكر أهمّـية قراءة تاريخ الممارسة الفعلية للعلاقة بين الدين و السياسة و أولويّة هذه القراءة على تاريخ العلمانية كمفهوم، و قدّم شواهد دقيقة على ذلك عن طريق ذكر تاريخ العلمنة في دول مثل بريطانيا و فرنسا و تركيا، و كيف كانت تجربة العلمنة في هذه الدول و غيرها بعيدة عن فكرة النموذج العلماني الذي تتمّ صياغته ثم يقع اتباعه، و كيف أن التاريخ بتفاعلاته هو الذي يملي شروطه على مسار التجربة. كما قدّم قراءة لتاريخ علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي و بيّن من خلالها أنه لا يمكننا الجزم بأن تاريخ السلطة السياسية في الدولة الإسلامية قد ارتبط دوما بالتداخل غير المشروط بين الديني و السياسي
بالنسبة إلى هذا الجزء الأول من التحليل التاريخي لتاريخ ممارسة العلمانية في بعض الدول التي خاضت هذه التجربة، و الذي يمثل الجزء الأساسي الثاني من مقال الكاتب و هو المعنون بتاريخانية العلمانية، فإني أتفق مع الكاتب فيما استخلصه من أن العلمانية ليست وصفة سحرية يقع إعدادها ثم يتمّ تناولها على جرعات حتى تقضي على جميع أوجاعنا من طائفية و استبداد سلطوي، و لكن هذا الاتفاق في الرؤى يقف عند هذا الحد
إن الفكر الإنساني منتج باستمرار و مجدّد حتما و هذا استنتاج تاريخي علمي. هذا الاستنتاج يعني أنه لا وجود لفكر ثابت غير قابل للنقد. إن العلمانية كآلية تفكير تستبعد حتما إمكانية نقل إشكاليات أو حلول ارتبطت أساسا بأوضاع مكانية أو زمنية معنية لتعليبها ثم استهلاكها في مكان أو زمان مغاير. العلمانية ليست دينا و لا تخضع لمنظومة الفكر الديني الصالح لكل زمان و مكان. الفكر العلماني فكر إنساني متجدد باستمرار، إذا تكلـّس لن يعود بالإمكان تسميته بالعلماني. و هذا ليس ردا على تأكيد طارق الكحلاوي عن عدم إمكانية "الخلاص في استنساخ تجربة أوروبية" بل هو ردّ على كل من لا يتجاوز فهمه للعلمانية كونها من صنع الغرب "الكافر" و "المعادي للعرب والعروبة"
إنّ القول بأنّ منشأ العلمانية هو الفكر الغربي و بأنّ العلمانيّين العرب يريدون استنساخ التجربة العلمانية المسيحية يعتبر لدى غير العلمانيين أفضل حجّة لنقاش الأفكار المطروحة على الواقع العربي. بهذا التبسيط الشديد يعبّر المعادون للفكر العلماني عن عدائهم للفكر المختلف. إن ما ينتجه الفكر الإنساني ليس غربيا و لا مسيحيا إنما هو محصّلة مجهود إنساني ناتج عن وعي بالإشكاليات المطروحة على أرض الواقع. العلمانية ليست بضاعة نستوردها و لا نظاما نتّبعه. العلمانية خلاصة تفكير إنساني بُنِـيَ على مبادئ الحرية الشخصية و الاعتراف بالآخر و بحقّـه في أن يكون مختلفا عنا في انتمائه الفكري و الديني و السياسي و العرقي و النوعي وباحترام حقوقه كمواطن و ليس كعربي أو كمسلم أو كأنثى. هذا يعني إذا لمسنا من الواقع المتردي ضرورة اتـّباع طريقة علمانية في التعامل مع هذا الواقع فهذا لأن تجربتنا الإنسانية، في زمننا و في مكاننا هذا، حتمت علينا ذلك. و إذا أردنا أن نكون علمانيين فعلينا قراءة واقعنا بمعطياته الموضوعية التاريخية و الاجتماعية و السياسية
إذا كانت القراءة التاريخية تقوم على الفهم و التحليل و النقد و التأمل في المتغيرات التاريخية لغاية تفعيلها في الوضع الراهن و لغاية التجديد فهي قراءة ناضجة ناتجة عن إشكالية وضعت في السياق التاريخي، أما إذا استقرأنا التاريخ لمجرد دراسة الأفكار و التيارات المتباينة عبر التاريخ دون توظيف لذلك فإن عملنا يأتي مبتورا و تبقى الكثير من الأسئلة مطروحة. كذلك تجدر الإشارة إلى أن إمكانات الواقع لا تتجلـّى لنا من خلال دراسة هذا الواقع تاريخيا فقط، و استقراء التاريخ لا يغنينا عن قراءة الحاضر بمعطياته الموضوعية الحالية. إن القراءة التاريخية قراءة مشروعة بل أكيدة، ولكنها لا تغني عن قراءة للواقع بأبعاده المتعدّدة
أشير كذلك هنا إلى أن تاريخ الممارسة و الذي أكـّد طارق الكحلاوي على أهمّيته لا يغنينا على الإلمام بالمفهوم، و ذلك سواء كان الموضوع المطروح هو العلمانية أو الديمقراطية أو المجتمع المدني و التي هي مصطلحات خاصة بالفكر الوضعي. إن التأسيسات النظرية الخاصة بمفهوم العلمانية و شروط إنشائها في العالم العربي ليست نابعة من عدم فهي ناجمة عن بحث دقيق في الإشكاليات المطروحة على أرض الواقع، من ذلك البحث عن أسباب الصراعات الطائفية و المذهبية و العرقية و الدينية في مصر و سوريا و لبنان و العراق و السودان ثمّ البحث فيما إذا كان الفكر العلماني قادرا على حل المشاكل الناجمة عن التفكير الطائفي مثلا، و بإمكان القارئ العودة إلى ما نشرته مجلة الآداب بخصوص موضوع الطائفية في العالم العربي و كذلك إلى ما كتبه جورج طرابيشي في مقاله العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية حتى نتأكـّد أنّ مفهوم العلمانية لم يأت بمعزل عن تاريخ الممارسة و أن تاريخ ممارسة السلطة في العالم العربي الإسلامي لا يشكـّل تقاطعات مع أيّ ممارسات يمكن وصفها بالعلمانية. فإذا كان بإمكاننا دراسة تاريخ علاقة الدين بالسياسة في العالم الإسلامي فإننا غير قادرين بالمقابل على دراسة تاريخ العلمانية في العالم الإسلامي كممارسة و ذلك لأنها لم تـُؤَسّـَس بعد حتى إن لاحظنا تاريخيا بعض الممارسات التي يمكن وصفها بالعلمانية. إن الإشكاليات المطروحة على الواقع نابعة من معطيات موضوعية: تاريخية و اجتماعية و سياسية، لذلك نجد أنّ العديد من المفكّرين العلمانيين العرب، و الذين ينتمون حضاريا إلى العالم الإسلامي، يصيغون إشكالية العلمانية في سياقها التاريخي حتى يتمكنوا من إدراج موقف مبني على أسس منطقية عقلانية
في الواقع لقد ترددت كثيرا قبل أن أكتب أي شيء عن السرديات الشمولية، و منشأ هذا التردد ليس معرفيا، فبمعزل عن الملاحظة المنهجية التي أبديتها إلا أني قد توصلت إلى فهم طرح كاتب المقال. مصدر تردّدي في هذه القراءة هو أن لا يكون طارق الكحلاوي معنيا بما قد أتوصل إليه من أفكار بقدر ما يعتبر نفسه مستهدفا ممّا قد أبديه من ملاحظات، فيسعى إلى درء تهم موهومة عنه عوضا عن تقديم قراءة جديدة مبنية على ملاحظات قد تكون قد غابت عنه في مرحلة أولى
لقد ذكر طارق الكحلاوي في تدوينة له: أكثرمقال جلب انتباهي شخصيا هو المقال الرائع لنصري الصايغ "بؤس العلمانية من بؤس العلمانيين "... و الذي يعيد التأكيد على بعض الأفكار التي قلتها المرة الفائتة خاصة في علاقة بنقد الرؤى العلمانية السائدة... و لكن بأسلوب أكثر عفوية.. من بين العناوين الفرعية للمقال: "المشكلة ليست في صلاحية العلمانية بل في صلاحية العلمانيين"... حيث يقوم بالتدليل على ذلك من خلال وقوف جزء هام من العلمانيين اللبنانيين مع الطائفيين في الحرب الأهلية اللبنانية
و قد استغربت فعلا من هذه الملاحظة لأن ما جاء في مقالة نصري الصايغ لا يوحي البتة بالأفكار التي ذكرها طارق الكحلاوي في السرديات الشمولية، فنصري الصايغ علماني حتى النخاع و ما أورده في مقاله يوحي بغيرته على مصير الفكر العلماني إزاء الواقع الطائفي المتردي في العالم العربي، و ليس تعبيرا منه عن رفضه للفكر العلماني "السائد" في هذا العالم
كما تعجبت إزاء هذه الملاحظة هنا: "عزيز العظمة كتب (بشكل بدى لي انطباعيا بعض الشيء لكنه مؤثر في كل الأحوال) مقالا بعنوان"جولة أفق في العلمانية و شأن الحضارة". في حين كتب جورج طرابيشي مقالا أكثر تدقيقا، و لو أنه أطال حسب رأيي في بعض الاستشهادات التاريخية."ه
هل من النقد العلمي في شيء أن نصف ما يكتبه إنسان ينتج فكرا بالانطباعية، أقول "ينتج" لأنّه ليس من البساطة أو البداهة أن ننتج فكرا في عالم يتردّى باستمرار. كذلك فإنّ إبداء ملاحظة عن الإطالة في الاستشهادات التاريخية جائزة و مشروعة إذا بدا لنا أن صاحب الاستشهادات قد ذكرها دون أن يرفقها بفهم أو بقراءة لهذا التاريخ، و هذا ما لا أستطيع أن أقوله في خصوص مقال العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية لأن جورج طرابيشي أورد فهما للعلمانية يتطلب منه أن يغوص في أعماق التاريخ الإسلامي حتى يقدم لنا الحجة القاطعة على أن العلمانية تخدم بدرجة أولى مصالح المسلمين سنة و شيعة في العالم الإسلامي و ليس من شأنها أن تعيق تديّنهم بحال من الأحوال