قامت إحدى الشركات بالإعلان عن مناظرة يقع على إثرها انتداب موظفين يتمتعون بكفاءة معينة للعمل بالشركة. و قد لمست في نفسي القدرة على الترشح لهذه المناظرة نظرا لتطابق المواصفات المطلوبة مع مؤهلاتي. تضمّنت المناظرة المذكورة اختبارا كتابيا أجريته بنجاح ثم تمّت دعوتي لإجراء اختبار نفسي تقني
وجدت نفسي يوم الاختبار أمام شخصين طرحا عليّ جملة من الأسئلة من نوع: قدّمي لنا نفسك، اذكري لنا مسيرتك الدراسية، قدمي لنا نبذة عن حياتك العملية، كيف تقضين أوقات الفراغ؟ ماذا تمثل لك العائلة؟ حدّثينا عن عائلتك، ماذا يمثل الزواج بالنسبة لك؟ ... أسئلة من النوع البسيط و مواضيع من النوع الذي قد تجد نفسك بصدد ذكرها مع أي كان
:كان من بين الأسئلة السهلة الممتنعة التي تمّ طرحها علي
"ما هو آخر كتاب طالعته؟"
لم يكن السؤال في حـد ذاته صعبا و لكن الإجابة عليه تطلبت مني لحظات مشحونة بالتفكير
كنت أذكر جيدا أن آخر كتاب طالعته في تلك الفترة هو كتاب "نقد الفكر الديني" للدكتور صادق جلال العظم، كما كنت أذكر جيدا الشعور الذي تركه فيّ هذا الكتاب، مزيج من الألم و الرفض و السخط و الإحباط و الغضب، و لم يكن بوسعي و الحال كذلك أن أذكر أيّ كتاب آخر طالعته في نفس الفترة سواءا لحنا مينة أو لتشارلز ديكنز
ما الذي جعل هذا السؤال ينزل عليّ نزول الصاعقة؟
كنت يومها شديدة الرغبة في تجاوز الاختبار لدرجة جعلتني أفكـّر: هل يرغب هؤلاء فعلا في معرفة عنوان الكتاب الذي طالعته أم في معرفة نوعية الكتب التي أقرأها؟
و ابتدأت تصوراتي الاجتماعية تعمل على تفهّم الوضعية: هؤلاء رجلان نشآ في بيئة عربية مسلمة، يعني في وسط كل ما فيه يشتغل عن طريق تفعيل مسلمات و بديهيات، يعني أشياء لا تـُناقـَش و لا تـُنقـَد و لا يجب التفكير فيها، و أنا امرأة كذلك من و في بيئة عربية مسلمة، هل مطروح على شخص مثلي أن يفكـّر و أن يقرأ كتبا تنقد الدين؟ لا. لماذا لا أذكر لهما رواية من روايات نجيب محفوظ أو مسرحية من مسرحيات توفيق الحكيم، لن تكون سوى نصف كذبة بما أني قرأت أغلب ما أنتجاه، بإمكاني أن أتباهى أمامهما بالكم الهائل الذي قرأته من روايات آجاثا كريستي، لم لا؟
و دون وعي مني و جدتني أقول: "طالعت مؤخرا كتاب نقد الفكر الديني للدكتور صادق جلال العظم". و لكم أن تتخيلوا الراحة النفسية التي شعرت بها إثر ذلك. لماذا؟ لأنني ببساطة عبرت عن حريتي في أن أطالع ما أريده أنا و ليس ما يمكن أن يفرضه علي صاحب العمل
سأعيد هنا ما ذكرته سابقا: حريتك الشخصية تبدأ من الجزيئات الصغيرة، من التفاصيل الدقيقة التي تعيشها في حياتك اليومية، إذا فرّطت في جزء منها تتابعت الأجزاء كلها، و لن يَـبْـقَ بعدها لا حرية شخصية و لا حرية في التفكير و لا حرية في التعبير و لا في تقرير المصير