هذا النّص ليس مجالا للدفاع عن قناة نسمة ولا لإدانتها، بل يحاول أن يصف موضوعيا ما حدث في علاقة بفكر المؤامرة.
بثّت قناة نسمة مساء الجمعة الماضي 7 أكتوبر شريطا سينمائيا مشهور عالميا وهو شريط بلاد فارس "بارسيبوليس Persépolis.
هذا الشريط عبارة عن صور متحركة ويصف حياة بنت إيرانية الأصل اسمها مرجان قبل وأثناء وبعد الثورة الإيرانية لسنة 1979. وفيه ذكر لممارسات نظام الخميني في إيران بعد حصوله على الحكم. ومن بين هذه الممارسات: قتله للثوار الذين تحالف معهم ضد الشاه في بداية الثورة والذين كانوا يخالفونه الرأي واعتدائه على الحريات الشخصية للإيرانيين بعد الثورة ومن ذلك فرضه للحجاب المحكم على الإناث ومنعه للمواطنين من الاستماع إلى بعض أنواع الموسيقى ومنعه لبعض الكتب من الدخول إلى إيران واقتحامه للبيوت للتفتيش بسبب أمور شخصية بحتة.
إثر عرض الشريط احتج البعض من التونسيين وفي معضمهم سلفيين وهدّدوا بحرق مقرّ قناة نسمة لأنه حسب قولهم تم تجسيد الذات الإلاهية في الفيلم.
ما حدث هو أمر متوقّع ليس لأنّه تمّ التعرّض للذات الإلاهية بالتجسيد، ولو كان ذلك هو السبب الحقيقي لما وزّع هؤلاء أثناء الاحتجاجات مطبوعات تحمل نفس الصورة للذات الإلاهية المجسّدة، ولكن التوقّع مأتاه أنّ الفكر السلفي غير قادر على الدفاع عن المشروع المجتمي الذي ينوي بناءه بالإقناع وبالحجة فيتجه نحو المغالطة حينا ونحو العنف حينا آخر. وإني على يقين أنه لو تمّ بث الفيلم دون ذلك المقطع لكان وجد رغم ذلك نفس الهجوم الشرس.
في علاقة بفكر المؤامرة قرأت الكثير من النصوص والتعاليق التي تدين قناة نسمة لأنها بعرضها للشريط تكرّس مشروعا إمبرياليا صهيونيا يسعى إلى ضرب الثورة التونسية وإلى إعاقة الانتخابات. كما ذكر العديد أن هذه القناة تتلقّى تمويلا أجنبيا لهذا الغرض.
في تاريخ الشعب العربي الكثير من الأحداث التي لاقت مثل هذا التفسير السطحي لممارسات بعض الحكام والمواطنين العرب والمسلمين سواء كانت هذه الممارسات واعية أو غير واعية. يتمّ تفسير ما يحدث في العالم العربي الإسلامي بالمؤامرة عندما لا يريد الشخوص الأساسيون تحمّل تبعات ومسؤولية اختياراتهم أو عندما ترفض العامّة تحليل ونقد الوضع بمعطياته الأساسية.
فلنستنطق التاريخ:
عندما واجهت الدولة المصرية الجيش اليهودي بأسلحة قديمة وخسرت الحرب عزي ذلك إلى مؤامرة صهيونية ضدّ العرب. وبالطبع لم تتحمّل وزارة الدفاع المصري ولا رئيس الدولة المصرية مسؤوليتهم في اشتراء سلاح قديم وفي تقديم جنودهم قربان بشريا من أجل بطولة وهمية.
عندما خاض صدّام حسين حروبه ضد إيران في الثمانينات من القرن الماضي وخسر كلّ من الجانبين العراقي والإيراني الآلاف من الشباب والملايين من الدولارات، فسّر البعض ما حصل على أنّه من تبعات التدخّل الأمريكي في العالم الإسلامي، ولم يُتّهَم صدّام حسين بالاعتداء على جارته إيران من أجل مصالحه.
عندما هجم بن لادن على مركز التجارة العالمي بنيويورك بارك العديد من المسلمين هذا الهجوم ثمّ ما لبثوا أن "اكتشفوا" أنّه مؤامرة صهيونية محبوكة بدقّة ضدّ المسلمين في العالم.
عندما تدخّلت قوّات الناتو هذه السنة لمساندة الثوار الليبيين الذين قتـّلوا بالآلاف رأى الكثيرون في ذلك اعتداءً إمبرياليا صارخا على سيادة الدولة الليبية، وها أنّ نفس الأشخاص تستغرب عدم تدخّل القوّات الدولية لدرء المخاطر على الشعب السوري.
عندما تمّ تأجيل موعد الانتخابات في تونس من 24 جويلية إلى 23 أكتوبر 2011 بسبب أمور تقنية بحتة قال البعض إن الأنظمة الإمبريالية تخشى من تأسيس المسار الديمقراطي ومن وقوع انتخابات حرّة ونزيهة في تونس. وعندما تأكّدنا بالدليل المادي وبالممارسة أن المسألة التقنية تتطلّب فعلا وقتا إضافيا أصبح البعض يفسّر تجنّد المجتمع المدني من أجل إنجاح الانتخابات على أنه دليل على وجود أجندا أمريكية تتابع الشأن السياسي التونسي عن كثب.
و... عندما عرضت قناة نسمة فيلم بارسيبوليس، أعلن هذا المدّ الذي يفسّر جميع الأحداث بالمؤامرة أنّ نسمة تدعم المدّ الإمبريالي الصهيوني في تونس خوفا من نجاح الانتخابات.
متى نصبح نحن التونسيين نؤمن بدورنا في تحريك أحداث التاريخ سواء كان ما قمنا به يحظى بالنقد أو بالإجماع؟ وحده إيماننا بقوّتنا الفاعلة بإمكانه أن يحرّرنا من الأوهام. لماذا لا يمكننا أن نصدّق أن نسمة لها خطّ تحريري مختلف عن السائد في القنوات العربية وأنها تفعل ما بوسعها لإبراز هذا الاختلاف؟ أليس ذلك من حقها خاصة وأن ثورة تونس نادت بالحرية؟ أم يجب أن ننتظر ثورة أخرى حتى نؤمن فعلا بحرية الاختلاف؟