الأحد، 22 يونيو 2008

في غلبة المجتمع الأهلي على المدني في العالم العربي

خالد غزال
الأوان
يدور سجال في العالم العربي منذ سنوات حول سبل تحقق الديمقراطية وشروط الدخول في الحداثة. يجري استحضار العقبات التي تنتصب في وجه هذا المسار، لا سيما منها العقبات البنيوية الداخلية. يشكـّل ضعف المجتمع المدني أو غيابه أحيانا حلقة أساسية في هذا المجال، كما تمثل سيادة وطغيان المجتمع الأهلي عنصرا مقررا في هذا السجال، وهو أمر يفتح على شروط تحقق المجتمع المدني والمعوقات التي تقف في وجه غلبته.ه

يفترض المجتمع المدني، أولا، الدولة كإطار سياسي تجد الأمة تعبيرها من خلاله. يطرح اهتزاز الدولة في الوطن العربي وتصدعها الراهن أسئلة حول أسس نشوئها وطبيعة تكونها. من المعلوم أن الهزائم التي منيت بها بعض الأنظمة وعجز غالبيتها عن تحقيق البرامج الإصلاحية الموعودة زعزعت مقومات الدولة العربية ، أنظمة و كيانات، ووضعتها أمام تحديات عسيرة كان أصعبها مدى قدرة الدولة على أن تبقى كيانا سياسيا مؤطرا لقوى المجتمع ولمؤسساته السياسية والمدنية و الأهلية. ويجد هذا الأمر تفسيره من خلال العجز عن بناء دولة بمعناها الحديث لحساب قيام سلطة مستندة إلى الأجهزة الأمنية أو إلى البنى التقليدية السائدة، مما يعني إعاقة لمسيرة تكون مجتمع مدني فاعل.ه

يشكل تجاوز المجتمع الأهلي المستند إلى مكونات ما قبل الدولة مقياسا لدرجة تقدم المجتمع المدني وبالتالي مسيرة الديمقراطية. ينعكس التصدع في موقع الدولة العربية انتعاشا متجددا لعناصر المجتمع الأهلي. فقد ورث العالم العربي بنى اجتماعية شديدة التنوع تمثل الانتماءات العشائرية والقبلية و العرقية و الطائفية أسس بنيانها السياسي والاجتماعي. تملك هذه البنى موروثات ثقافية وتقاليد تغرس جذورها عميقا في هذه البنى وتحدد اتجاهات الحياة السياسية والاجتماعية. تسببت مراوحة مشروع التحديث العربي وتراجعه في فوران هذه الموروثات وحلولها مقام الدولة في المهمات والقضايا العامة بحيث تحولت الملجأ البديل للمواطن العربي. نجم عن ذلك ارتداد المجتمع إلى أشكال من السلطوية القائمة على هيمنة فئوية أو فردية، و إلى تصاعد النبذ والتناحر بين هذه المكونات وغياب ثقافة التضامن والاعتراف بالآخر. وفي هذا الإطار انبعثت قضية الأقليات واتخذت حجما يؤشر إلى أخطار كبيرة في المستقبل. من الطبيعي في هذا المناخ أن تتراجع المؤسسات المدنية لتخلي الساحة إلى انتماء عضوي للفرد إلى طائفته أو عشيرته.ه

لم يكن غريبا في هذا السياق رؤية البنى الأهلية وهي تكتسح الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات التي تشكل الأسس التي ينهض عليها المجتمع المدني ويفعل من خلالها. تعاني هذه المؤسسات في الأصل معضلة حرية عملها والقيود المفروضة عليها، وهو أمر مرتبط بحدود المساحة الديمقراطية المسموح بها في العالم العربي والمدى المتاح لها في تكوين حيز خاص لعمل هذه المؤسسات. تتجلى أبرز النتائج في ازدهار الأحزاب ذات الانتماءات الطائفية أو العرقية، وحجم اختراق الانقسامات المذهبية للنقابات والاتحادات المهنية وسيطرة الجمعيات الأهلية ذات الصبغة الدينية او الاثنية على مجالات العمل الاجتماعي. تقدم الاوضاع السائدة في لبنان والعراق امثلة فاقعة على هذه الوجهة، مع الإشارة إلى أن هذين البلدين ليسا فريدين في بابهما، لان الكثير من البلدان العربية تحوي نماذج مماثلة قابلة للانفجار عند أي تصدع في كياناتها او ازالة القبضة الديكتاتورية عنها.ه

تشكل المنظمات غير الحكومية ومعها المنظمات البيئية روافد مجتمع مدني قيد التكون. تواجه هذه المنظمات مشكلتين اساسيتين، الاولى في سعي السلطات القائمة الحد من استقلاليتها والعمل على التدخل في عملها او الحاقها بمؤسسات السلطة كليا او جزئيا، والثاني زحف البنى التقليدية للهيمنة عليها وتصنيفها فئويا. في كلا الحالتين يتسبب هذا التدخل في تقليص الحيز الخاص لهذه المنظمات وبالتالي تهميش دورها كمؤسسات مدنية.ه

يمثل الإعلام واحدا من عناصر القوة المفترضة والدافعة إلى تكون المجتمع المدني. كسرت ثورة المعلومات منطق الرقابة وتجهيل الشعوب بحقائق الممارسات السلطوية، وحصرت وسائل إعلام الدولة في مجال ضيق. تسبب اختراق الإعلام للحياة العامة والخاصة الى كسر الكثير من حواجز الهيمنة وساهم في ادخال الوعي السياسي إلى أوسع الفئات الشعبية، كما ساهم الى حد واسع في تفاعل قوى المجتمع العربي والتعرف على المشكلات القائمة فيه. على رغم هذا الهامش من الحرية المفروضة، ما زال في مكنة السلطة القائمة الحد من حرية هذا الاعلام ووضع قيود على تعبيره وفرض رقابة ما تزال ذات فاعلية على برامجه المخالفة للسياسات العامة. يطال هذا التدخل ما هو مسموح وممنوع بثه في وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة. وعلى رغم ان الانترنت بات يشكل وسيلة تملك حرية اكبر في استقبال المواد او بثها ويتيح تواصلا اكبر بين الجمهور العربي، الا ان السلطات تبتكر من الوسائل الرادعة دوما في اطار تحديد ما يجب معرفته من المواطن العربي. لكن الاعلام نفسه يلعب احيانا كثيرة دورا معيقا لتكون المجتمع المدني من خلال البرامج المكرسة لاعادة انتاج الثقافات التقليدية التي تستحضر العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية، وكذلك البرامج المحرضة على العنف والكراهية ورفض الاعتراف بالاخر.ه

وتحتل درجة التطور الاقتصادي اهمية كبيرة في نشوء المجتمع المدني وتقدمه. يشكل الفقر مادة معيقة لهذا النمو، لان الفقر ارض تزدهر فيها عوامل العنف والتطرف، كما يشكل موئلا لثقافات سياسية واجتماعية بعيدة عن منطق العقلانية. يشكل اقتران انبعاث موروثات ما قبل الدولة بارتفاع منسوب الفقر والامية في العالم العربي اخطارا تهدد بنيان الدولة وكيانها في كل قطر، فانهيار الدولة يشكل الخطر الاكبر على وجود وفاعلية المجتمع المدني ويضع مقدرات البلد المعني في قبضة البنى التقليدية.ه

وتبدو العلاقة شديدة الترابط اكثر من اي وقت مضى بين ثلاثة مكونات: الدولة و الديمقراطية والمجتمع المدني. يشكل العداء للدولة عنصر إعاقة لإمكان تحقيق الديمقراطية ونشوء مجتمع مدني. كما يؤدي اهتزاز الدولة او انحلالها الى سيادة سلطات اهلية وميليشيات تتسبب حكما في الغاء الديموقراطية والهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني . وعندما يسود العنف في المجتمع وتهتز بنى الدولة يصبح عسيرا كل امل في تكون مجتمع مدني يتجاوز الموروثات الاهلية ويساهم في تحقيق الديموقراطية.ه

كاتب لبناني

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الحقيقة أن الجدال يدور منذ قرون وليس سنوات .منذ حملة نابليون على مصر أو "صدمةالحداثة" كما يود البعض تسميتها.
ورغم المحاولات العديدة لبلورة مشروع نهضوي إبتداء من الكواكبي و محمد عبده وصولاً إلى المحاولات المعاصرة بقي المجتمع العربي يراوح مكانه.
إن الحديث عن "ما قبل الدولة " هو حديث إفتراضي .فالفضاء العربي لم يعرف "الدولة "بمفهومها الحديث لا قبل ولا بعد الحقبة الاستعمارية ..
إن الدولة هي نتاج توافق إجتماعي مبني بالاساس على نظرية "العقد الاجتماعي" التي تحدث عنها روسو أحدى فلاسفة عصر التنوير ألاوروبي.لذا فالحديث عن دولة لا يعد أن يكون حديثاً عن دول ورقية تنهار أمام أول إختبار جدي ولنا في العراق خير مثال.
إن الدول لا يقع ترسيم حدودها بالمسطرة والقلم كمعظم "الدول "العربيةبل بمدى الوعي بالا شتراك في تاريخ و ألتطلع لاقتسام مستقبل .
والمجتمع المدني هو إحدى افرازات هذا الوعي التاريخي والتأريخي و ليس التطور الاقتصادي ..وللحديث بقية